كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الحكم الشرعي: الأمر هنا للوجوب أي يجب عليك شرعا أيها الولد ذكرا كنت أم أنثى أن تقوم بحوائج والديك بحسب قدرتك، وأن تدعو لهما، وتتواضع لهما، وتلين جانبك لهما حينما يكلمانك أو تجاربهما، وأن لا تزجرها، وأن تخاطبهما باللطف وتحترمهما غاية الاحترام، هذا وقد بالغ جل شأنه في التوصية بهما إذ شفع الإحسان إليهما بعبادته وتوحيده سبحانه، وجعل ذلك كله قضاء مبرما عليه، وحث حضرة الرسول على ذلك أيضا، فقد روى ابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم ورجح الترمذي وقفه قال: رضاء اللّه في رضا الوالدين وسخط اللّه في سخط الوالدين.
وروى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد وكان المسلمون إذ ذاك بحاجة إليه، فقال أحيّ والداك قال نعم، قال ففيهما فجاهد.
فجعل صلّى اللّه عليه وسلم القيام بأمورهما خيرا له من الجهاد وأعظم أجرا عند ربه.
وجاء في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال لو علم اللّه تعالى شيئا أدنى من الأف لنهى عنه، فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة، وليعمل البارّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار.
ورأى ابن عمر رجلا يطوف بالكعبة حاملا أمه على رقبته فقال يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال لا ولا بطلقة واحدة، ولكنك أحسنت واللّه تعالى يثيبك على القليل كثيرا.
وروى مسلم وغيره لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعنقه.
وعنه عليه الصلاة والسلام إياكم وعقوق الوالدين فإن الجنة يوجد ريحها من مسيرة ألف عام ولا يجدها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جارّ إزاره خيلاء إن الكبرياء للّه رب العالمين.
قدّم في هذا الحديث العاق على قاطع الرحم لأن العقوق أعظم لاشتماله على قطع الرحم وعدم احترام الأبوين الذين وصّى اللّه ورسوله بهما ومخالفتهما مخالفتهما، ولا أعظم منها وزرا.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريره قال: جاء رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك ثم أمك ثم أباك، ثم أدناك فأدناك؟
أي الأقرب فالأقرب منك.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه، قيل من يا رسول اللّه؟ قال من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة أي بسبب برّهما.
وروى مسلم عن عبد اللّه بن مسعود قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى اللّه تعالى؟ قال الصلاة لوقتها، قلت ثم، قال برّ الوالدين، قلت ثم، قال الجهاد في سبيل اللّه.
وعن أبي الدرداء قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: «الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فضيّع ذلك الباب أو احفظه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وروى البيهقي في الدلائل والطبراني في الأوسط والصغير بسند فيه من لا يعرف عن جابر قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه إن أبي أخذ مالي، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم: «فاذهب فأتني بأبيك» فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال: «إن اللّه تعالى يقرئك السلام ويقول إذا جاء الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه، فلما جاء الشيخ قال له النبي صلّى اللّه عليه وسلم: ما بال ابنك يشكوك تريد أن تأخذ ماله» قال سله يا رسول اللّه هل أنفقه إلا على عماته وخالاته أو على نفسي؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم: «ايه دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك» فقال الشيخ واللّه يا رسول اللّه ما يزال اللّه تعالى يزيدنا بك يقينا، لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي، فقال قل وأنا أسمع فقلت:
غذوتك مولودا وصنتك يافعا ** تعلّ بما أجني عليك وتنهل

إذا ليلة نابتك بالسقم لم أبت ** لسقمك إلا ساهرا أتململ

كأني أنا المطروق دونك بالذي ** طرقت به دوني فعيني تهمل

تخاف الرّدى نفسي عليك وإنها ** لتعلم أن الموت وقت مؤجل

فلما بلغت السن والغاية التي ** إليها مدى ما كنت فيها أؤمل

جعلت جزائي غلظة وفظاظة ** كأنك أنت المنعم المتفضل

فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ** فعلت كما الجار المجاور يفعل

تراه معدا للخلاف كأنه برد ** على أهل الصواب موكل

قال فحينئذ أخذ النبي صلّى اللّه عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال: «أنت ومالك لأبيك».
ومنهم من أسند هذه الأبيات لأمية بن الصلت وهو جاهلي معروف، وهو خلاف الواقع لأنه لو كان له من صحة، ما نزل جبريل على النبي وقال له عن ربه ما قال، قاتل اللّه الأفاكين.
هذا وقد قرن اللّه في هذه الآية توحيده بالإحسان إلى الوالدين وفي آية 151 من الأنعام عدم الإشراك بالإحسان إليهما، وفي آية النساء 35 في ج 3
قرن عبادته بالإحسان إليهما، وقال في الآية 14 من سورة لقمان {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ} الآية في ج 2، فقد قرن شكره بشكرهما أيضا إيذانا بعظيم حقهما وإعلاما بأن من لم يحسن إليهما لم يعبد اللّه، ومن لم يشكرهما لم يشكر اللّه، فالسعيد من وفق لبرهما والشقي من عقهما.
ولهذا البحث صلة في تفسير الآيتين الآنفتي الذكر فراجعهما.
هذا والأم مقدمة في البرّ على الأب لزيادة حقها ولضعف جانبها، فهي مستوجبة للإحسان زيادة على الأب، فعلى العاقل الموفق أن يبذل جهده ووسعه ببرهما، ولتكن معاملة الإنسان لمثله باللطف وللضعيف بالإحسان، وللمريض بالعطف، وللفقير بالمعونة، وللجاهل بالتعليم، وللعالم بالأدب، وللعامل بالعمل، وللمخترع بالتشجيع، وهكذا لكل بما يناسبه.
واعلم أنه لا يختص البر بالحياة فقط بل يكون بعد الموت أيضا، فقد روى ابن ماجه أن رجلا قال يا رسول اللّه هل بقي من برّ أبوي شيء أبرهما به؟ بعد موتهما فقال نعم الصلاة عليهما، أي الدعاء والاستغفار لهما وإيفاء عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما.
وروى هذا الحديث ابن حبان في صحيحه بزيادة قال الرجل ما أكثر هذا يا رسول اللّه وأطيبه، قال فاعمل به.
وأخرج البيهقي عن أنس قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن العبد ليموت والداه أو أحدهما وانه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه اللّه تعالى بارّا.
وأخرج عن الأوزاعي قال بلغني أن من عقّ والديه في حياتهما ثم قضى دينا إن كان عليهما واستغفر لهما ولم يستب لهما، كتب بارّا، ومن برّ والديه في حياتهما وقام بواجبهما كما ينبغي حتى ماتا مدينين وكان مقتدرا على أداء دينهما ولكنه استنكف ولم يستغفر لهما واستبّ لهما كان عاقا.
وأخرج هو أيضا وابن أبي الدنيا عن محمد بن النعمان يرفعه إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب برّا.
وروى مسلم أن ابن عمر رضي اللّه عنهما لقيه رجل بطريق مكة فسلم عليه ابن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار فقلت أصلحك اللّه تعالى إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير، فقال إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: إنّ أبرّ البرّ صلة الولد أهل ودّ أبيه.
وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بردة رضي اللّه عنه قال: قدمت المدينة فأتاني عبد اللّه بن عمر فقال أتدري لم أتيتك؟ قال قلت لا، قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده، وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاه وودّ فأحببت أن أصل ذلك.
وجاء في الخبر احفظ ودّ أبيك.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن العقوق من الكبائر لأن حضرة الرسول عده منها، والعقوق هو أن يؤذي والديه أو أحدهما بما لو فعله مع غيره كان محرّما من جملة الصغائر، أما إذا طالب الولد والديه بدين لا يكون عقوقا لأنه لو فعله مع غيرهما لا يكون حراما، أما طلب حبسه لأجل الدين فمن العقوق، كما أنه لو طلب حبس المعسر فإنه لا يجوز ومجرّد الشكوى منهما لا تعد عقوقا لأن إقامة الدعوى على الغير بحق جائزة، وقد شكا بعض ولد الصحابة آباءهم إلى رسول اللّه ولم ينهه، وهو الذي لا يقر على باطل، أما بنهرهما وزجرهما فمن الكبائر لثبوت النهي عنه نصا كما مر عليك، ومخالفة أمر الوالد فيما إذا فعله لحق بالولد ضرر أو يغلب على ظنه لحوق الضرر لا يعدّ عقوقا ولا مخالفة بل عليه الطاعة والامتثال فيما عدا ذلك.
ومن الكبائر أن يسافر الولد ويترك أبويه أو أحدهما بلا نفقه مع قدرته وحاجتهما، أما السفر إلى حج الفرض وطلب العلم فلا يحق للوالدين المنع إذا تأمنت نفقتهما من مالهما أو ماله، وإن مخالفتهما في هذين لا يعدّ عقوقا ولا يكون فعله كبيرة، أما إذا لم يؤمن نفقتهما مدة ذهابه وإيابه فلا يجوز له الذهاب مطلقا، لأن حقهما أقدم من غيره، وإن فعل كان عاقا ومخالفا ومرتكبا الكبائر، وإذا خالفهما فيما لا دخل لهما فيه ولا ضرر فيه عليهما ولا عليه فلا شيء عليه البتة، إلا أن عدم المخالفة أولى لئلا يحقدا عليه، وإذا فعل فعلا يسبّب ضررا إليهما فيحرم عليه ذلك، لأن إضرار هما والتسبب لإضرارهما حرام ولو كلف الوالد ابنه طلاق زوجته التي يحبّها فلم يمتثل فلا إثم عليه، لأن هذا من خصائصه ولا ضرر يلحقهما منه رأسا ولا تسببا، وإذا كان يقدر أن يصبر عن زوجته فطلقها امتثالا لأمر والديه أو أحدهما فهي فضيلة له يثاب عليها، كما يأثم الوالدان إذا تسببا لطلاقها بلا سبب شرعي، فقد روى ابن حبان في صحيحه أن رجلا أتى أبا الدرداء فقال إن أبي لم يزل بي حتى زوّجني امرأة وإنه الآن يأمرني بطلاقها، قال ما أنا بالذي آمرك أن تعق ّ والديك، ولا بالذي آمرك أن تطلق زوجتك، غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، سمعته يقول الوالد أوسط أبواب الجنة فحافظ على ذلك إن شئت أو دع.
وروى أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال كان تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي طلقها، فأبيت، فأتى عمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فذكر ذلك له فقال صلّى اللّه عليه وسلم طلقها.
هذا إذا طلب طلاقها لمطلق كراهتها، وأما إذا كان لأمر يتعلق بالغيرة أو بالدين أو بالآداب فلابد من الامتثال.
أما أوامره التي لا حامل لها إلا ضعف عقله وسفاهة رأيه بحيث لو عرضت على ذوي العقول لعدوها عبثا أو متساهلا فيها، فلو خالفهما فيها فلا إثم عليه، وينبغي للولد أن لا يتضجر من هكذا أوامر فلو تضجر أو قطب وجهه لقاءهما أو لم يقم لهما حينما يأتيانه بحضور الناس كان عقوقا لهما مؤاخذ عليه، لأنه أكثر من الأف التي نهاه اللّه عنه، ولا يقال إن الوالدين إنما طلبا بزواجهما تحصيل اللذة لأنفسهما لا لقصد الولد، لأنه إنما لزم منها وجود الولد ودخوله في عالم الآفات والمخالفات، فلا فضل لهما عليه ولا منّة، كما أن أحد المسمّين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول له أنت أدخلتني في عالم الكون والفساد وعرضتني للموت والفقر والعمى والزمانة.
وقيل لأبي العلاء المعري ولم يكن ذا ولد ما نكتب على قبرك فقال اكتبوا عليه:
هذا جناه أبي عليّ ** وما جنيت على أحد

وقال في ترك التزوج وعدم الولد:
وتركت فيهم نعمة العدم التي ** سبقت وصدت عن نعيم العاجل

ولو أنهم ولدوا لنالوا شدة ** ترمي بهم في الموبقات الآجل

وقال ابن رشيق:
قبح اللّه لذة لشقانا ** نالها الأمهات والآباء

نحن لولا الوجود لم نألم ** الفقر فإيجادنا علينا بلاء

وقيل للإسكندر: أستاذك أعظم منّة أم والدك؟ فقال الأستاذ أعظم منّة لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي حتى أوقفني على نور العلم، وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى عالم الكون والفساد.
فانظر هداك اللّه إلى هؤلاء وأمثالهم الذين ينظرون إلى ظواهر الأمور ويتركون بواطنها والثمرة المطلوبة منها دون تروّ بالمراد الحقيقي الذي من أجله يكون الشيء وهم حكماء تأخذ الناس عنهم ويضربون بأقوالهم الأمثال، وإذا أجلت النظر فيما ذكروه وأنعمت الفكر فيما سطروه في هذا لوجدته طيشا، فلو أنهم قالوا إن الزواج يحفظ النفس من الوقوع في الزنى المنهي عنه شرعا وإن الزواج بقصد ردع النفس عن تعدي حدود اللّه، وأن الولد جاء بالعرض ولا كل زواج يأتي بالولد، وكم من ولد شرف آباءه في الدنيا والأخرى ونفعهم فيها: لكان أولى وأجدر بمقالهم، وان الذين يتزوجون للذة فقط لبسوا من المتدينين المتمسكين بالدين، بل من الذين يتبعون أهواءهم، وشهواتهم، وهؤلاء غير مقصودين ولا معدودين من الرجال الذين هم رجال بالمعنى الوارد في الآية 37 من سورة النور في ج 3، فإذا كانوا يحطون أنفسهم إلى درجة أهل الأهواء فلا بدع أن يقولوا ما قالوا، وإلا فيكون قولهم هذا من اللغو الذي يجب أن يمرّ فيه العاقل مر الكرام، راجع الآية 71 من سورة الفرقان المارة.
واعلم هداك اللّه إذا قلنا هب أنه أول الأمر كان المطلوب منه لذة الوقاع كما يتقولون أليس الاهتمام بإيصال الخيرات ودفع الآفات من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات، إذ لو كان الإدخال في عالم الكون والفساد والتعريض للأكدار والأفكار دافعا لحق الوالدين لزم أن يكون دافعا لحق اللّه تعالى، لأنه سبحانه هو الفاعل الحقيقي، فلو شاء لما كان الولد.